صناعة الأتباع
حين يتحول الوهج إلى منظومة
في الماضي، كانت “القدوة” تُبنى من أثرٍ حقيقي، من جهدٍ وصبرٍ وتاريخٍ يَصنع احترامه ببطء وعناية وبكثير من المثابرة والسعي والحكمة، وموروث ثري تتناقله الأجيال بكل حرص وعناية كأمانة يحرص كل جيل على تسليمها لمن يأتي بعده كما ورثها ممن قبله، موروث عميق تشكل عبر أحداث ومواقف وليست مجرد صور وقشور.
أما اليوم، فقد أصبحنا نعيش زمن القدوات المصنوعة وفق آلية معدة مسبقاً.
وجهٌ إعلاميٌ لامع، يُبنى بعناية، يُوجّه بذكاء، ويُقدَّم للناس على أنه النموذج الأجمل للحياة، وبالطبع هذا كله تجهيز لمراحل مستقبلية يظن الكثير من الناس أن الحديث عنها لا يتعدى كونه عيش مستمر تحت تأثير المؤامرة، أو محاولات مستمرة للوقوف أمام سيل التقدم والتطور للبقاء في عصر الرجعية والتأخر.
لكن الأخطر من صناعة القدوات هو صناعة الأتباع.
المرحلة الثانية من اللعبة
في هذه المرحلة، لا يُكتفى بقدوة واحدة تُحرّك الجماهير، بل يُصنع حولها طيفٌ من النسخ البشرية:
أشخاص يشبهونها في المظهر، في الأسلوب، في طريقة الحديث وحتى في زوايا التصوير.
لكل واحد منهم مساحة مختلفة في الجمهور، ودور محدد في منظومة التأثير الكبرى ويعمل بجد وتفان في توصيل الرسالة وتجميل وترسية صورة القائد أو المشهور.
إنهم لا يبدون كـ”أتباع”، بل كـ”شخصيات مستقلة” وهذه هي الحيلة والسر الأكبر في العملية.
فالجمهور لا يتبع رمزاً واحداً، بل يرى شبكة بشرية متناسقة تردّد الرسالة ذاتها بطرق مختلفة حتى يُصدّق أن الفكرة حقيقية لأنها تتكرر من أفواه متعددة، وطبعاً يكون التنسيق هنا عالٍ جداً ويراعى فيه التوقيت وتتابع الأحداث وترتيبها.
لا وعياً حين تجلس أي تجمع تجد مفردات تتكرر بين الجمهور وحين تبحث عن مصدرها تجدها أتت إليهم من هؤلاء الأتباع، ولا يقف الأمر عند المفردات بل هي بذرة البداية لتنمو وتصبح أفكاراً وقناعات.
أتباع بمقاييس جديدة
ليسوا مجرد معجبين، بل أدوات موزعة على منصات ومجالات ولكل منه صورته النمطية ودوره الخاص ومساره الذي لا يتحول عنه ويؤديه بكل اهتمام وعناية لينال الرضا وبعدها ربما يصل به الحال ظناً منه أن سيرتقي لمناصب أعلى أو توكل إليه مهام أكبر.
يُختارون بعناية:
قد يبدو هذا الظهور للبعض أنه صدفة ولكن كل شيء له ترتيباته الخاصة والاختيارات تتم وفق آلية دقيقة جداً حيث يُدرس كل شخص بعناية فائقة جداً ويمر بعدها بعدة محطات واختبارات حتى توكل له المهمة ويصبح جزءً من اللعبة.
من يمتلك القدرة على التمثيل العاطفي؟
من يُجيد الظهور بمظهر العفوي والمخلص؟
من يستطيع أن يكرّر خطاب “القدوة” دون أن يبدو مقلّدًا؟
من يلّمع هؤلاء ويجمّل صورهم!!
وهكذا تتحول القدوة إلى “نظام”، والأتباع إلى “أذرع” يحركها العقل المدبر وفق النظام المرسوم والمعد مسبقاً، يُعاد من خلالها تدوير الرسائل وتضخيمها حتى تغطي الوعي العام، لتصبح أشبه بالمسلمات إن لم تصبح مسلمات فعلاً.
ورثة الأثر لا الفكرة
وهنا تظهر فئة أخرى لا تقل خطرًا: إنهم ورثة الأثرياء وورثة أصحاب الجاه والمناصب.
كثيرٌ منهم لم يرثوا فكر الآباء أو قيمهم، بل ورثوا فقط البريق الخارجي؛ الاسم، الصورة، والنفوذ وطبعاً وقبل كل ذلك المال.
تُستثمر هذه الفئة غالبًا في صناعة التأثير الجديد:
يُقدَّمون كنماذج “للنجاح المريح”، وكأن الحياة تُعاش بلا عناء ولا كبد.
يُستدعون في المناسبات لتمثيل “الطبقة التي يُراد للناس أن يعجبوا بها وينساقون خلقها”.
يُستخدمون لتمرير الرسائل المبطّنة عن “أن السعادة في المظهر، لا الجوهر”، وأن المكانة تورَّث كما تُورَّث الثروة، كل ذلك لتعزيز الفكرة الأساسية وبالطبع هذا يجعل منهم يؤمنون بالطبقية ويعملون وفقها.
إنهم لا يخبرونك بحقيقة أنه لا يمكن أن تصبح مثلهم وأن عليك أن تدرك ذلك وتعمل وفقاً له، بل يجتهدون في رسم طريق يوضحون معالمه هم ومن تم اختيارهم كأتباع لهم ليخلقوا صورة واضحة المعالم بأن هذا الطريق هو من سيوصلك للمستوى الذي طالما تمنيته وحلمت به.
وحقيقة الأمر أن هذه الخريطة وهذا الطريق يوصلك إلى المستوى والمكان الذي يرغبونه هم لتصبح جزءً قابلاً للتعديل أو التبديل من منظومتهم التي يسعون بكل جهد أن يجعلونها مكتملة قدر الإمكان ووفق كل المعطيات.
وهكذا يُعاد توجيه الوعي العام تدريجيًا نحو الإعجاب بالسطح بدل الجوهر،
ونحو الانبهار بالثروة بدل احترام العمل،
ونحو اتباع الاسم بدل الاقتناع بالفكر.
التأثير بالتراكم لا بالمنطق
ما يفعله صُنّاع القدوات والأتباع ليس غسيل عقولٍ مباشر، بل تطبيعٌ طويل الأمد.
يُقدَّم المضمون بجرعات صغيرة، مغلفة بابتسامات وصور جميلة، ناعمة مغرية حتى لا يدرك المتلقي أنه يُعاد تشكيل وعيه ببطء، وأن ذائقته ومعاييره تتبدّل دون أن يشعر.
النتيجة وعيٌ منساق، لا واعٍ
حين تكتمل المنظومة، يصبح المجتمع مكوَّنًا من ثلاثة مستويات:
1. صانع القدوة الذي يملك أدوات التوجيه.
2. الأتباع الصناعيون الذين يعيدون بث الرسالة.
3. المتلقي الذي يعيش في دائرة التأثر المستمر، ويظن أنه يختار، بينما هو يُقاد.
الخيط الذي لا يتغير
في النهاية، كل هذا يعود إلى تلك النقطة الأولى التي تحدثنا عنها منذ البداية:
حين نَكبت مشاعرنا الجميلة، نُضعف مناعتنا العاطفية.
وحين نَفقد بوصلتنا الداخلية، نصبح مهيئين لأن يقودنا أي ضوء لامع، حتى لو كان وهماً.
فما بين القدوة المصنوعة، والتابع المبرمج، والوريث الموجّه يضيع الإنسان الحقيقي، الذي كان يمكنه ببساطة أن يصنع طريقه وحده، لو أنه فقط استمع لصوته الداخلي قبل أن يُغرقه صخب الآخرين.
ختامًا
لسنا ضد الإعجاب، ولا ضد النجاح، ولا ضد أن نستلهم من غيرنا طريقًا يوقظ فينا الطموح،
لكننا ضد أن يُسرق وعينا تحت مسميات الإلهام،
وضد أن تتحول مشاعرنا إلى بواباتٍ مفتوحة لكل من أراد أن يدخل ليصوغنا ويوجهنا كما يشاء.
وضد أن نتحرر من حريتنا ونتعلق بقيود التبعية ظناً منّا أن نحلّق نحو سماء الحرية والتطور والرقي.
في زمنٍ يكثر فيه اللمعان وتقلّ فيه الحقيقة، يبقى الوعي هو الحصن الأول والأخير.
وعيٌ يذكّرنا أن لا أحد يستحق أن يقود عقولنا وقلوبنا إلا نحن،
وأن أجمل ما يمكن أن نصنعه لأنفسنا ولأجيالنا، هو أن نعيد بناء الإحساس،
ونربي أبناءنا على أن القيمة لا تُورَّث،
والقدوة لا تُصنع،
والاتّباع لا يليق بالعقول الحرة.