في كل عامٍ يحلّ فيه يوم المعلم، أجدني أعود بذاكرتي إلى ذلك الوجه الذي علّمني أول الدروس وأكثرها عمقا، لا في المدرسة فحسب، بل في الحياة بأكملها.
أعود إلى والدي ومعلمي، رحمه الله، الذي لم يكن مجرد أبٍ عظيم، بل كان مربيًا من طرازٍ نادر، جمع بين هيبة المعلم ودفء الأب، وبين الحكمة والحنان، وبين القسوة التي تُصلح والرحمة التي تُربي.
قرابة الأربعين عامًا قضاها في ميدان التعليم، يزرع في قلوب طلابه حبّ الكلمة ومعناها، وحبّ الله وما يقرب إليه.
كان من أوائل الدفعات التي حملت راية التعليم على مستوى المملكة، فكان من الجيل الذي وضع حجر الأساس لتعليمٍ يقوم على القيم قبل المناهج، وعلى بناء الإنسان قبل تلقين الدروس.
لم يكن التعليم بالنسبة له مهنة يتقاضى عليها أجرًا، بل رسالة يعيشها كل يوم. كان يرى في المدرسة ميدانًا للحياة، وفي الطلاب أبناءً له، يحرص على أن يترك في كل واحدٍ منهم أثرًا لا يُنسى.
كان يردد دائمًا أن الكلمة الصادقة لا تموت، وأن المعلم الحقيقي لا يغادر حتى لو رحل جسده، لأن أثره يسكن في قلوب من علّمهم. فكيف بقلوبنا نحن أبناءه!
كنت أراقبه وأنا صغير، كيف يدخل المدرسة وكأنه يدخل محرابًا مقدسًا. لم يكن يقبل أن يمرّ يوم دون أن يعطي أفضل ما لديه. كان يعلّمنا أن الاحترام يبدأ من احترام الكلمة، وأن التربية لا تُفرض، بل تُقدَّم بالقدوة، ولا يكون الفعل بالإجبار بل نابعاً من القناعة ليكون أعظم وأجمل.
ومع الأيام، أدركت أنني لم أتعلم منه القواعد اللغوية فقط، بل تعلمت كيف أفكر، وكيف أختلف، وكيف أحترم الرأي الآخر. منحني مساحة في الحوار كنت أظنها ترفًا في ذلك الزمن، لكنه كان يدرك أن الإنسان لا يُصنع إلا إذا مُنح حق السؤال وحرية التفكير.
كان يراقب من بعيد، ويعطي توجيهاته، ولكنه كان يبقي قطعة ثمينة منها بعيداً لا ينالها إلا من يعرف كيف يصل إليها وأحمد الله أنني أدركت ذلك مبكراً فصرت أسابق نفسي كل يوم لأنال قطعة ثمينة جديدة أضيفها لثروتي.
كان يستمع لي بصبرٍ رغم انشغاله، ويتركني أعبّر عن رأيي حتى وإن خالف رأيه، ثم يعقب بابتسامة هادئة تحمل أكثر من درس.
نعم، كانت له قسوته الظاهرة أحيانًا، تلك التي كنت أراها يومًا عبوسًا لا مبرر له، لكنني اليوم أدرك أنها كانت مواقف تعليمية عميقة، أراد بها أن يزرع فيّ الصلابة والانضباط، وأن يعلّمني أن الحياة لا تُدار بالعاطفة وحدها.
كانت كل ملامةٍ منه درسًا، وكل موقفٍ حازمٍ منه محطةً في بناء شخصيتي.
واليوم، حين أنظر إلى نفسي، أرى بصماته واضحة في كل ما أنا عليه، في طريقة تفكيري، وفي أسلوبي مع الناس، وفي إيماني بأن الكلمة الطيبة والنية الصادقة هما أساس كل عمل نبيل.
رحم الله والدي ومعلمي،
الذي لم يكن يدرّس من كتابٍ فحسب، بل من قلبٍ امتلأ بالإيمان والحكمة.
علّمني أن التعليم ليس في السبورة فقط، بل في الموقف الصادق، والكلمة الحكيمة، والنظرة التي ترى ما وراء اللحظة.
علّمني أن المعلم لا يصنع عقولًا فحسب، بل يصنع قلوبًا تعرف كيف تُحب، وتقدّر، وتفهم، وتسامح.
في هذا اليوم، أحتفي به كما يحتفي الناس بكل المعلمين، لكنني أحتفي به أكثر، لأنني حين أذكره أذكر معنى التعليم في أنقى صوره، وأرى فيه المعلم الذي غرس القيم قبل الحروف، وصنع الإنسان قبل المتعلم.
رحمك الله يا والدي ومعلمي، يا من تركت في قلبي حب العلم، وفي عقلي احترام الفكر، وفي حياتي أثراً لا يمحى.