عنما كنت طفلاً صغيراً، كان أبي بالنسبة لي أفضل رجل في العالم.
كبرت، وكبرت سؤالاتي وكثرت، صارت تطيش هنا وهناك، و ما أكثر ما صدمني البعض بردودهم ، بينما أبي بدا وكأنه يعرف كل شئ فقد كان يجيب على كل أسئلتي وبطريقة تحفزني لمزيد من الأسئلة،
مرت السنوات وبدأت ملامح الصبا تبرز في شخصيتي، وهنا لا زلت أرى أبي على أنه الأفضل، هو رائع بالفعل، إلا أنه لم يعد يصبر معي ويتحمل سلوكياتي واستفساراتي كما كان.
الآن وأنا في مرحلة وداع الطفولة، صرت أراه شخص رائع فعلاً، ولكن ذلك عندما كنت صغيراً.
وصلت إلى المرحلة المتوسطة ، مفعم بالطاقة أبحث عن الانطلاق، لدي الرغبة في أن أفعل الكثير والكثير، ولكن والدي الحبيب بدا لي أكثر حساسية من السابق، بل إن أدنى فعل أو قول يصدر مني تكون ردة فعله غير مفهومة من قبلي ، بل إني أراها غير منطقية ولا مبرر لها.
كبرت وأصبحت شاباً في الخامسة عشر من العمر، لا زلت أحب أبي وأراه رائعاً، إلا أنني أصبحت أجد صعوبة أكثر من ذي قبل في التواصل معه، بدأت أشعر فعلاً أنه لم يعد يفهمني أو ربما لم يعد يرغب في أن يفهمني كما كان يفعل في السابق.
مرت سنتين، زاد الاندفاع لدي والرغبة في الانطلاق، في هذا العمر والدي لم يعد متسامحاً كما كان، صرت أراه قاسياً وصارماً جداً معي.
بلغت العشرين، وجميعنا يعلم كيف يشعر ابن العشرين، شعور رائع أن تبدأ في إيجاد مكان لك بين الرجال، ليت أبي يستطيع أن يتفهم أنني الآن صرت رجل.
في منتصف العشرين بدأت الأمور تتصعب أكثر، فوالدي أصبح يعترض على كل شئ أفعله أو أقوله، استمر الوضع على هذا المنوال لسنوات.
ثلاثة عقود مضت ، صرت أرى نفسي الآن أكثر وعياً أكثر نضجاً، أكثر إدراكاً لما يدور حولي، أصبح من الصعب جداً أن نصل إلى توافق في الرأي أنا ووالدي، تساؤل يدور في خلدي دوماً، تُرى هل كان جدي يتصرف مع والدي بنفس هذه الطريقة حين كان في مثل عمري!!!
صرت أباً، وبدأت أستحضر سنوات طفولتي وصباي وشبابي، وأستعيد ذكرياتي مع والدي، نعم والدي أحسن تأديبي وعلي أن أفعل الأمر نفسه مع أولادي.
مرت السنوات وبمرورها زاد عدد الأبناء فصرت أكثر شتاتاً، كيف استطاع أبي أن يدير شؤوننا جميعاً ويتحمل ما كان يصدر مناً ويراعينا ونحن أكثر عدداً.
كبرت، وكبر أبنائي وكبر معهم التساؤل: كم هو صعب السيطرة على الأبناء، أدركت الآن كم كان والدي يعاني في سبيل تربيتنا وحمياتنا.
بعد أن تجاوزت حاجز الأربعين، تأكد لي أن والدي لديه بعد نظر، خطط بشكل رائع لنا جميعاً، لقد كان في غاية اللطف والروعة، كان يراعي كل واحد منّا على أنه الابن الوحيد.
الآن وبعد كل هذه السنوات أقول: أبي أفضل رجل في العالم.
كنت طفلاً صغيراً يرى والده أفضل رجالل العالم، كبرت وبدأت هذه القناعة تتضاءل بداخلي، ومع تقدمي في العمر عادت قناعتي هذه لتنمو وتكبر من جديد، حتى صرت الآن على يقين تام بأن والدي هو فعلاً أفضل رجل في العالم .
تُرى هل نحتاج فعلاً لكل هذه السنوات حتى نتأكد من معتقد الطفولة!!!
تذكر دائما في الوقت الذي تدرك فيه أن والدك على حق، سيكون لك ابن يعتقد أنك على خطأ